من هنا نبدأ... لِنُطهِّر نفوسنا وننهض بأوطاننا بالإيمان والرضا والعمل الصادق 

لقد تغيّر وجه الحياة في عصرنا الحديث، وتسارعت إيقاعاتها حتى فقد كثير من الناس قدرتهم

من هنا نبدأ... لِنُطهِّر نفوسنا وننهض بأوطاننا بالإيمان والرضا والعمل الصادق 
من هنا نبدأ... لِنُطهِّر نفوسنا وننهض بأوطاننا بالإيمان والرضا والعمل الصادق 

✍️ بقلم: د.م. مدحت يوسف
? التاريخ: ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥

لقد تغيّر وجه الحياة في عصرنا الحديث، وتسارعت إيقاعاتها حتى فقد كثير من الناس قدرتهم على التوازن والرضا. أصبح الإنسان يقيس نفسه بالآخرين لا بنفسه، وينظر إلى ما في أيديهم أكثر مما ينظر إلى ما أنعم الله به عليه. تتردد الأسئلة في النفوس: لماذا فلان أغنى مني؟ لماذا فلان في منصب أعلى؟ لماذا يملك غيري الصحة أو الأبناء وأنا أُبتلى؟ تساؤلات بشرية في ظاهرها البراءة، لكنها إن تركت دون وعيٍ وإيمانٍ، تحولت إلى نارٍ تشتعل في القلوب، تُغذي الحسد، وتُفسد الطمأنينة، وتُضعف الثقة بعدل الله وحكمته.

لقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعي الباب على مصراعيه لعرض ما كان مستوراً في النفوس. ففي الماضي، كانت الغيرة حديثاً داخلياً يُكتم، أما اليوم فقد أصبحت تُعلن في منشورٍ أو تعليقٍ أو تلميحٍ ظاهر. كانت الميديا وسيلة تواصلٍ وتبادل معرفة، فأصبحت عند البعض منبراً للتجريح، ومسرحاً للمقارنة، وساحةً لنشر الحسد والشكوك. ومن المؤسف أن نرى من يشكك في نوايا من يعمل الخير، ومن يسخر من المحسنين، ومن يُهاجم من يحاول الإصلاح، وكأن النقاء أصبح مثار اتهام، والإخلاص صار غريباً في زمنٍ تعلو فيه الضوضاء على القيم.

إن هذه السلوكيات ليست مجرد تصرفاتٍ فردية، بل مظاهر اجتماعية تُهدد بنية القيم داخل المجتمع. حين تُفقد الثقة بين الناس، وتنتشر الغيرة والبغضاء، يضعف التماسك الاجتماعي، ويضيع الشعور بالأمان. إن أخطر ما يواجه المجتمعات اليوم ليس الفقر المادي فقط، بل الفقر الأخلاقي والنفسي الذي يُولّد العداء والكراهية في القلوب.

لقد خلق الله الناس متفاوتين في الأرزاق والقدرات لحكمةٍ يعلمها وحده، فقال سبحانه: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا». الرزق لا يُقاس بالمال وحده، فهناك من رُزق الصحة والعافية، وآخر رُزق القبول بين الناس، وثالثٌ وهبه الله راحة البال. إن الرضا هو أعظم نعمة يمنحها الله لعباده، لأنه مفتاح السعادة ودواء القلب. فالقلب الراضي لا يعرف الحسد، ولا يحزن على ما فاته، لأنه يعلم أن كل شيء بقدرٍ من الله، وأن الخير فيما اختاره له ربه.

إن أول طريق الإصلاح هو تزكية النفس. قال تعالى: «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها». والتزكية ليست كلماتٍ تقال، بل سلوكٌ يُترجم في المواقف. هي أن يُحاسب الإنسان نفسه قبل أن يُحاسب غيره، أن يُهذّب مشاعره، ويُصفّي نيّته، ويُوجّه جهده نحو العمل والإنتاج لا نحو الغيرة والمقارنة. حين نُزكّي أنفسنا، نُطهّر قلوبنا من الغل، ونستبدل الغيرة بالاجتهاد، والشكوى بالشكر، والمقارنة بالإنجاز.

إن للإعلام والمحتوى الرقمي اليوم مسؤوليةً كبرى في تشكيل وعي المجتمع. فالكلمة المنشورة ليست عابرة، والصورة المرفوعة ليست مجرد لحظة، بل رسالةٌ تُوجَّه للعقول والقلوب. فإذا حملت هذه الوسائل خطاباً إيجابياً يُشجع على الخير والتعاون، ويُبرز النماذج المشرفة، فإنها تُصبح سلاحاً للإصلاح والتنوير. أما إن تُركت للفوضى والسطحية، فإنها تُصبح أداة هدمٍ وتفرقةٍ وتسميمٍ للوعي العام.

وحتى نُحصّن مجتمعنا، لا بد من العودة إلى ثقافة العمل الشريف والإخلاص الصادق. المجتمعات لا تنهض بالجدال، بل بالعمل، ولا تُبنى بالنقد الجارح، بل بالتعاون والتكامل. كل إنسان في موقعه مسؤول عن لبنةٍ في بناء الوطن؛ فالمعلم حين يُخلص في رسالته، والطبيب حين يتقن عمله، والعامل حين يؤدي واجبه بإتقان، كلهم شركاء في عمارة الأرض وحماية الوطن.

نحتاج اليوم أن نُربي أبناءنا على الشكر لا الحسد، على الصبر لا الشكوى، على المحبة لا المقارنة، وعلى الفعل لا القول. فالتربية ليست تعليماً بالكلمات، بل قدوة بالمواقف. وحين يرى الأبناء منّا الرضا والتواضع والجد والاجتهاد، يتربّون على القيم التي تُبنى بها الأمم وتزدهر بها الأوطان.

? فلنبدأ من أنفسنا قبل أن نُطالب غيرنا بالتغيير. نُطهّر قلوبنا من الحقد، ونملأها بالإيمان، ونُعمّرها بالرضا، ونجعل من أفعالنا برهاناً على صدق نياتنا.
لنكن نحن التغيير الذي نريد أن نراه في مجتمعنا، ولنُعيد للناس الثقة في الخير، والإيمان بأن العدل الإلهي لا يغيب.

فالأوطان لا تُحمى بالسلاح وحده، بل تُحمى بسلام النفوس، وعدالة القلوب، ونقاء النوايا. تُبنى بالإخلاص قبل الشعارات، وبالعمل قبل الكلام، وبالاحترام قبل المطالب. ومن هنا نبدأ... من داخلنا، من بيوتنا، من كلماتنا، من نياتنا، لنعيد لمجتمعاتنا دفء الأخلاق، ولنُحيي روح المحبة التي تُقوّي الأوطان وترفع الإنسان. ?